اليوم عادي، أو معتاد، كأنّه أمس، وكان من قبل غداً، وجاء بصيغة اليوم. الجوُّ حارٌّ وراء الزجاج الملوَّن، ورطبٌ وراء الجدار الرماديِّ، وباردٌ في الداخل، ارتديتُ معطفاً اشتريته لمطر كان محتملاً في عمَّان قبل شتاءين كاذبين. أفتح الثلاجة الأقصر من زوجة أمضت خمسين عاماً في الخدمة الزوجية، أشربُ عصيراً طبيعياً على عهدة مصنع إنجليزي مجهول، أفتح التلفاز فيكون “سعيد صالح” ذاهباً في السابعة صباحاً إلى المدرسة في يوم “المُولدْ”، فأعرفُ بالفطنة الزائدة أنَّ اليومَ “عيد”.
ستفوتني صلاة العيد، فلن توقظني التكبيرات في الجامع القريب، على بُعْد سماء من بيتي. أتجوَّلُ في البيت، أخرجُ من علبة الكبريت، إلى علبة السجائر: أحاولُ تقليدَ السعداء الذين هم في معجم أمِّي “مِسْعَدينْ”؛ لكنَّ ذقني نابتة كعاشقٍ يقطعُ الحبَّ من طرفٍ ليوصله بحبل الغسيل، وحلاقتها ترفٌ لسائحٍ يتوقع أنْ يصادفه الحبُّ في مطعم الوجبات السريعة، فأين يذهبُ “غريبٌ على الخليج” في يوم العيد، ولا موتى لي في المقابر، لا أطفالَ يؤوِّلون حركات يدي لأخرج الدنانير الخضراء، لا “معمول” في منزل الأرملة، أو قهوة مُرَّة إذا التبَسَ الفرح، وسكاكر رخيصة للأطفال دون العاشرة، ولا تأفف على خفوت النهار قبل اكتمال زيارات المَحارم في “ياجوز”؛ فالوقتُ هُنا “وقفة” طويلة!
“غريب” و”على الخليج”، هُنا أجلسُ على البلاج لأتأمَّلَ الذين صدَّقوا مرور العيد، وتورَّطوا في الإحساس المبالغ بفرح مائي المزاج، كنتُ سأقبل بالخدعة بوقار زائف، وأذهب معهم إلى “المول” الكبير كنهاية حتميَّة لأزمة السير، وأندمج في سرب مراهقين يقفون بانتظار شيِّق عرضاً أوَّلَ لفيلم أخير لـ “أحمد حلمي”، وأحمل طفلاً لا يشبهني لأدله على طريقة ممتعة لرمي “الطابة” في الصالة المغلقة على كمية معقولةٍ من المرح، أجلس بقرب عائلة تبدو سعيدة في المطعم المفتوح، حتى يأتوا تباعاً لأخذ مقاعد طاولتي كلما اكتملوا، وكلما نقصتُ، واقتربتُ من فصيلة التعساء الذين في معجم أميِّ “مِتْعَسينْ”؛ أمِّي التي لها حكمة مؤلمة: “من ليس له عائلة، ليس له عيد”.
اليوم عادي، أو معتاد، جاء العيد أو ذهب، الأمر لا يُؤرِّقُ كائناً تلفزيونياً خرج في فاصل قصير لمعاينة الحياة، ومطابقتها مع الأصل السينمائي. خرجتُ فقط لأحسم الجدَلَ اللحوح في رأسي، لكنَّ طفلة مصرية ستسأل أمَّها الملولة “هنروح العيد ولا هوَّ هيجي”؛ كانت تتعلمَّ فنَّ الشك، وتجرِّدُني من الأسئلة التي أجوبتها زائدة، فالأمر الآن لا يُحيِّرني، ولن يحيِّرَ الطفلة أكثر من عشرين عاماً، حتى تنجبَ طفلاً يضحكُ على تلميذ يذهب إلى المدرسة في يوم “المُولدْ”، وتتأكَّد أنَّنا نذهب إلى العيد كلما كبرنا، وبالغنا في المكابرة أنَّ “العيال كبرتْ”!
خرجتُ غريباً بمحاذاة الخليج، لا أقصدُ شيئاً، ولا شيءَ يقصدني، لا يهمني أن أعرفَ بدقة ضارة إنْ كان اليوم أمس أو غداً. محايداً مشيتُ لا أملك موقفاً متعالياً؛ فليس العيد ما يُضَجرني، إنما اضطرار الناس للفرح..
وبصراحة كاملة لا حرجَ فيها: “ما لي شغل بالعيد.. مريتْ أشوفكْ”