في الصيف، في طريقنا إلى أيِّ مكان، نسمعُ فيروز تغني:"رجعت الشتوية". ولا يأخذ أحد من الركاب غناءها على محمل الجد، فيزيح الستارة القذرة، ويفتحُ الشبَّاك المهترئ ليمدَّ كفه لمصافحة غير متكافئة مع حبات المطر. لا أحد يفعل ذلك، ولم يحدث أن صدقنا فيروز أن "الشتوية رجعت" في تموز!
وحينَ يكونُ الشتاء متوقعا منذ "ذيل أيلول"، يمعنُ السائق؛ أي سائق في خداعنا. نكون على وشك النوم تزجية للمشاوير الطويلة التي لا تحملنا غالبا إلى فصل خامس لم نألفه، فيأتي صوت فيروز وراء مقدمة موسيقية شديدة الألفة، مثل امرأة تلوِّحُ بقلبها لمدىً يابسة خضرته، لا يصرُّ فقط على أنَّ الشتوية رجعت، بل تأخذنا إلى مشاوير مبلولة على أدراج منسية!
ونصدِّقُ ،نزيحُ الستائر، ونفتحُ الشبابيك.. ولا تصافحُ أكفنا إلا ريحاً جافة!
وهذا الشتاءُ حيَّرَنا. كلُّ الإذاعات راحت تستعينُ بفيروز لتصادقَ على توقعات مذيعي الأرصاد الجوية. وقبل أيام أفرط الأثير في التبشير بالثلج، وجازف بمصداقية "الصوت الملائكي". قالت فيروز إنَّ الثلج جاء عشرين مرة، وفتحنا النوافذ ولم نجد طفلا ما يزال صغيرا، اسمه شادي، يلهو بثلج طازج!
جاءَ الشتاءُ مبكرا هذا العام، مرَّتين أو ثلاثة، وكنتُ أحرصُ على سماع تفسيرات الركاب في الحافلة لمعنى أن٦#39; يأتي المطرُ قبل صلاة الاستسقاء. المذيع دائما مبتهج حتى تظنَّ أنه إقطاعي لا تروي أراضيه مياه النيل، على طوله،
رجلٌ عجوز فرحَ بداية الأمر، واطمأنَّ أكثر لأن أستاذ جغرافيا محاذيا له أخبره أن "الشتوة الأخيرة" جعلت مخزون السدود أفضل من معدلها العام الماضي. وتحمَّسَ الأستاذ أكثر، وأكد أن شتوتين مماثلتين قد تكفيان البلاد عامين؛ فابتهج العجوز. قال من دون أن تبدو عليه السخرية:"إذن لن أموت بسبب العطش"!
امرأة سمينة سرَّها المطر؛ فهو سيُضاعف كميات الخضراوات، ويخفض بذلك سعرها. امرأة نحيلة لم تخجل من إبداء تذمُرها من الشتاء المبكر الذي سيضطرُّها ابتياع "كاز مغشوش"، يُناسب أكثر مدفأتها الصدئة، الدافئة نارها!
أما الفتى العاشق فلم يكن لديه تفسير واضح!
انقطعَ الشتاء حين كان متوقعا، أربعون يوما لم تص٦#39;دُق فيها فيروز إلا مرَّتين، الركاب في الحافلة اجتهدوا في تفسير الأمر، العجوز لم يكن الأمر يعنيه تماما لأنَّ مياه الشرب تكفي لعامين مقبلين، وأستاذ الجغرافيا رأى أن الأمر لم يخرج عن السياق المناخي المعتاد، المرأة السمينة سرَّها انحباس المطر لأنه سيوفر عليها أسطوانة غاز، والمرأة النحيلة أزعجها، لأن الخضراوات لم تعد تفيض عن حاجة المستوردين!
وحده المذيع بقي مبتهجا ويسوِّق لمنخفض جديد، منذ أربعين يوما وهو يشهر أوراقه الثبوتية على مسامعنا، ويتشدَّقُ بأصوله القطبية!
أما العاشق كان وحده يزيحُ الستارة ليرى المطر حين تغني فيروز "رجعت الشتوية" في تموز، فهو مستعد أن يصدِّق عودة الشتاء في أيِّ وقت بمجرَّد أن تبكي حبيبته على كتفه. وهي كانت دائما تبكي، بلا مبرر واضح، فيثق أكثر في حبها!!
كذب الشتاء هذا العام علينا جميعا؛ جاء مبكرا جدا عندما لم يكن متوقعا، وتأخر أربعين يوما وجاء في وقتنا الضائع!
إلا العاشق لم يعنه كذب الشتاء المبالغ فيه؛ فدمع حبيبته ربَّما كان أصدق!!
Comments