هنا الشرق؛ حيث حكم الزعماء أبدي، والنساء في بلاط الحُكام بريئات من التواضع براءة الذئب من دم ابن يعقوب، والأغنياء مزورون ومداهنون وسماسرة، يختلسون الثروات ويغتالون الحياة. وحيث كل مسؤول "كُلٓيبا" فلا تورد إبل أحد مع إبله ولا توقد نار مع ناره!
هنا الشرق؛ حيث الشباب والنجوم وكروم العنب وقصائد الحب في قبضة لسان شاسع من لهب البطالة والفقر والفساد، لا يبقي ولا يذر . هنا الشرق؛ حيث تنوح النائحات. ولا تبصر العيون أشعة الشمس إلا من كوة صغيرة، حائرة بياض النهار وسواد الليل. وحيث أضحى شذوذ الإنسانية في قوم كتراب ينثره سفيه على رأس عالم عبقري على مرأى من غاديهم ورائحهم!
هنا الشرق؛ حيث أحلام العاشقين في فيض دافق لا تقف في وجهه سدود، ورويدا رويدا، يأتي طوفان عظيم من العادات والتقاليد والتفاصيل اليومية ليجهز عليها، فلا يعود العاشق رجلا بل غريزة منهكة، ولا تعود العاشقة أنثى بل قشة في فلاة. وما أكثر ما ضاعت -هنا في الشرق- لحظة حب بين عاشقين، إذ أفسدها جهد آلي -بينما طيور الليل تتخاطب بصيحات ثاقبة- فإذا ما واتت لحظة رائعة كانت لأحدهما بمعزل عن الآخر، كانت بلا ري!
هنا الشرق؛ حيث انقطعت خيوط ليالي الحلمية في بكور الفجر وسقطت حلقاتها في بئر الذاكرة. ليالي الحلمية، والتي كانت تغني عن ألف ليلة وليلة لحقت بماراثون رمضان السنوي، ولكن بدون ذلك الدبيب الخافت لخطوات الأقدار المتأهبة دائما للنزاعات بين سليم البدري والعمدة سليمان غانم، لتتحطم أحلام الزمن الجميل وتتناثر شظاياها شرا وإثما، ولينبعث مارد الطمع والعناد ليبرر الخطايا، تحت بند اختلاف الزمن، وليثبت بالدليل القاطع بأنه لم يعد هنا في الشرق من أبرياء!
هنا الشرق؛ حيث تجلد سوريا بسوط مختل، بينما لا زالت فلسطين تجلد بسوط محتل. وحيث أصبح الإرهاب ناطقا باسم من سرقوا الأديان وأصبحت الآراء موضة وليست مواقفا. وحيث أصبحت اعتصامات شباب المستقبل تدرج تحت لائحة الأجندات السوداء. وحيث تعلق الرجال بوهم النجاح بينما أصبحت قواعد الجمال التعسفي غاية النساء!
هنا الشرق؛ حيث يتحدث الشعراء والأدباء عن الجمال باستخفاف، ويستخدمون معانيه بإهمال. ليشترك مع الكثير من الأشياء التافهة، فقد يصفون بالجمال ثوبا، قصيدة، أو وجها، أما عندما يقفون أمام الجمال الحق وجها لوجه، تخذلهم الحروف، وتراهم عراة حفاة من ناصية اللغة، فلا يستطيعون إدراك معانيه وإن نظموا ألف معلقة!
هنا الشرق؛ حيث لا يأتي العيد بهلال واحد، بل باثنين! فأما الأول؛ هلالٌ يشع بهجة، تتراقص حوله نجوم سعيدة، تنثر الطعام والشراب والألعاب والحلل الباهية، وحمائم بيضاء تنشد قصيدة الحياة. وأما الثاني؛ فهلالٌ تئن نجومه، وحمائمه في الفضاء نائحات، ترتلن نشيد الوعود لتطفئ جمر البؤس في قلوب تصدعت من ضيق ذات اليد!
هنا الشرق؛ حيث الحديث عن التآلف يخلق اللاتآلف، والخوض بالحديث عن الوحدة يعني أن ثمة تفرقة. أما الحديث عن التمييز العنصري أشبه بتحريك مياه آسنة، كفيلة بإغراق النسيج المكون لأي وطن ليصبح فيما بعد جثة وطن!
هنا الشرق؛ حيث ينتظر فارس عاشق منذ ألف عام -لحظة- ليغسل بها عن وجهه غبار الموت. لحظة تسمو بها روحه، ليخيل له أن أشهر السنة كلها نيسان. لحظة؛ تنظم فيها عيون الياسمين وأفواه الزنابق شعرا، يلذ على أفواه القائلين وأسماع السامعين. لحظة؛ تكون فيها السماء له مراح والأرض مغدى، وتختلط عليه الزرقة بالخضرة، فيمرح رائحا وغاديا. فخضرة تلبسه، وزرقة تخلعه. لحظة؛ يطرب فيها لمواء قطة تتناغى كطفل ماكر يلهو في سريره قبيل احتضان حلم وارف الظل. لحظة؛ لا أوصياء ولا أشقياء فيها. لحظة؛ يدرك فيها -ذلك العاشق- بأن الشرق، مهما كان زيفه متقنا فلا بد أن يكون فيه قدرا -ولو كان يسيرا- حقيقياً. لحظة ضحك لا تشبه رقرقرتها نغمات البلابل، ليس أنها لحظة سائغة، ولا أنها بلا كدر، بل لأنها لحظة حياة ولأنه أوان الورد...وكفى!
Comments